يتجاوز قرار المملكة العربية السعودية إدراج تدريس اللغة الصينية في مدارسها الحكومية مجرّد كونه ترفا علميا – ثقافيا ضمن سياسة الانفتاح على ثقافات العالم وشعوبه المختلفة التي تمثّل جزءا من العملية الإصلاحية الشاملة التي دشنتها المملكة منذ سنوات، إلى كونه خيارا لصيقا بتوجّه الرياض نحو تمتين العلاقة مع بكين بما يخدم السعي إلى تنويع الشراكات مع القوى الكبرى في العالم استجابة لهاجس التخفيف من الارتهان للعلاقة مع الولايات المتحدة نظرا لما أظهرته الأخيرة من تذبذب في سياساتها إزاء شركائها واختلاف بين إداراتها المتعاقبة في مدى الالتزام تجاه هؤلاء الشركاء بما يضمن مصالحهم ويحافظ على استقرارهم.
وقررت السعودية اعتبارا من العام الدراسي الحالي إدراج تدريس اللغة الصينية المعروفة بلغة الماندراين في المدارس الحكومية في ست مناطق كمادة أجنبية ثانية بعد اللغة الإنجليزية، وذلك بدءا من الصف الأول الإعدادي، وصولا إلى الصف الثالث الثانوي في الأعوام المقبلة.
ويشكل إدخال اللغة الصينية الى المدارس أحد المؤشرات على التقارب المتواصل وتعزيز العلاقات بين الرياض وبكين، أكبر مستورد للنفط السعودي.
وتمثّل الصينية إحدى اللغات الأكثر استعمالا في العالم مع الإنجليزية ويتكلمها 1.1 مليار شخص غالبيتهم العظمى يستخدمونها كلغة أولى.
وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أعلن بعد زيارته إلى الصين في فبراير 2019 عن خطة لإدراج اللغة الصينية في جميع المراحل التعليمية في المدارس والجامعات السعودية، فسارعت جامعات بلاده إلى إطلاق برامج لتعليم الصينية.
وتدرّس هذه اللغةَ في الوقت الراهن أربع جامعات سعودية، فيما دشنت جامعة الأمير سلطان في الرياض أول فرع لمعهد كونفوشيوس لتعليم الصينية بالمملكة في 2023.
وبعد ظهور الصين كقوة اقتصادية كبرى، أصبح تعلّم الصينية شائعا بشكل متزايد حول العالم، بما في ذلك أوروبا.
وحذّرت ألمانيا في عام 2022 من أن مراكز اللغات التابعة لمعهد كونفوشيوس “تُستخدم من الحزب الشيوعي الصيني لأغراض سياسية.”
وأغلقت العشرات من تلك المراكز في الولايات المتحدة والسويد وفرنسا وأستراليا وكندا في السنوات الأخيرة، بعد اتهامات مماثلة.
ولا تزال السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم حليفا وثيقا للولايات المتحدة منذ عقود لكنّها بدأت مؤخرا تسعى لتحقيق توازن في علاقاتها الخارجية مع القوى العالمية الكبرى الأخرى مثل روسيا والصين.
وتستورد الصين منذ فترة طويلة الخام من الشرق الأوسط وتشتري ما يقرب من ربع الشحنات السعودية وهي الشريك التجاري الأول للمملكة بتبادل تجاوز 100 مليار دولار في 2023، بحسب مسؤولين سعوديين.
وفيما تواصل شركة أرامكو عملاق الطاقة السعودي إبرام شراكات مع شركات بتروكيميائيات صينية، أكّدت الشركة العام الماضي التزامها الراسخ بأمن الطاقة في الصين.
وعلى الجانب المقابل تسعى بكين منذ سنوات إلى توسيع نفوذها في الشرق الأوسط. وفي عام 2023 أدت دورا رئيسيا في التقارب بين السعودية وإيران بعد أكثر من سبع سنوات من القطيعة.
ويعتقد الخبير في السياسة الخارجية السعودية بجامعة برمنغهام الإنجليزية عمر كريم أنّ “العلاقة مع الصين أصبحت من أهم العلاقات بالنسبة إلى السعودية.”
ويقول لوكالة فرانس برس “بما أن الصين تظل سوق الطاقة الرئيسي للسعودية، وبما أن ميزانية السعودية لا تزال تعتمد بشكل أساسي على عائدات النفط، فإن العلاقة مع الصين لها ارتباط مباشر بالأمن الاقتصادي السعودي.”
وخلال السنوات القليلة الماضية زار الرئيس الصيني شي جينبينغ الرياض حيث شارك في قمتين خليجية – صينية وعربية – صينية حضرهما قادة المنطقة.
كما استضافت الرياض منتدى للاستثمار الصيني – العربي في 2023، ووقعت اتفاقات استثمارية بأكثر من عشرة مليارات دولار مع شركات صينية.
ووصل المئات من المدرسين الصينيين إلى السعودية، فيما تعتزم الرياض إرسال مدرسين سعوديين الى الصين لتعلّم تدريس الصينية.
ويعتبر كريم أن “خطوة تعليم الأطفال اللغة الصينية تتماشى مع بروز الصين كقوة اقتصادية عالمية ومن المرجح أن تظهر أيضا كقوة تكنولوجية جديدة.”
ويتابع “من أجل مشاركة واستثمارات صينية أكبر داخل السعودية، تحتاج المملكة إلى قوة عاملة ومواطنين يعرفون اللغة الصينية كلغة تواصل مشتركة مثل اللغة الإنجليزية.”
وخلال حصة تدريس في مدرسة يزيد بن أبي عثمان في حي العارض بشمال الرياض وعلى مقربة من فرع لشركة “علي بابا” الصينية العملاقة للتجارة الإلكترونية، يتعلّم التلميذ ياسر الشعلان وزملاؤه كلمات صينية تصف الوظائف والمشاعر على سبورة إلكترونية. ورغم صعوبة اللغة التي تضم آلاف الرموز، كانوا يتفاعلون مع أسئلة مدرسهم.
ويتحصّل الشعلان مع زملائه على ثلاث حصص أسبوعية للغة الصينية على يد مدرّس صيني يتحدث العربية الفصحى بطلاقة. وتوسّع انتشار اللغة الصينية عبر العالم مدفوعا بخلفيات اقتصادية وعلمية وأيضا سياسية في بعض الأحيان وذلك على الرغم من حالة الإجماع على تعقّد هذه اللغة وصعوبة تعلّمها. ويقول الشعلان “في البداية كانت الصينية صعبة لكنها الآن صارت سهلة وممتعة.”
ويقرّ المدرّس الصيني المسلم شعيب بأن الصينية “من أصعب اللغات” ما يدفعه إلى تبني “طرق تعليم حديثة كالشاشة الذكية والإشارات والألعاب التحفيزية.”
وبالنسبة إلى مدير المدرسة سطام العتيبي فإن اللغة الصينية هي “لغة المستقبل للتواصل الاقتصادي. فالعالم يعتمد على الصين في الكثير من الصناعات.”